boujdourtec

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع الرسمي لمدينة التحدي


    فـي مهـب الريح ..

    ai_001
    ai_001
    نا ئب المدـــــــــير
    نا ئب المدـــــــــير


    عدد المساهمات : 260
    نقاط : 739
    الأوســــمة : 0
    تاريخ التسجيل : 25/07/2009
    العمر : 33
    الموقع : boujdour

    فـي مهـب الريح .. Empty فـي مهـب الريح ..

    مُساهمة  ai_001 الأحد أغسطس 30, 2009 3:17 am

    خرج من قاعة الدرس واتجه إلى الحديقة حيث اعتاد أن يجلس على أحد المقاعد الخشبية المنصوبة على العشب الأخضر تظللها أشجار السرو والصنوبر، ويسري في نفسه شعور خفي حفل بالراحة والسرور يعوضه عن البحوث الجافة في الفلسفة، أو الاجتماع التي يلقيها المحاضرون بوتيرة متماثلة ومتشابهة، وكأنهم يؤدون طقوسا دينية لا تتغير ولا تتبدل.. كثيرا ما ساءل نفسه بخصوص اختياره هذا القسم من كلية الآداب، وإصراره عليه على الرغم من معارضة عمه الشديدة الذي طالما شجعه، ودفعه إلى دراسة الطب أو الهندسة في أية جامعة يختار، وإن كان زيّن له محاسن الجامعات البريطانية أو الأمريكية .‏

    عمه مازال غاضباً منه رغم مرور عدة شهور على مغادرته عمان إلى دمشق، والتحاقه بجامعتها، ولم يجد مبرراً لذلك إلا التأثير المباشر والانطباع العميق الذي غرسه في ذاكرته أستاذه في مادة الفلسفة في الثانوي.. وأثناء توارد هذه الأفكار في مخيلته هبت ريح خريفية خفيفة، حملت معها الأوراق المتساقطة وتلاعبت بها بين شجيرات الورد الشامي، الذي يضفي مشهداً رائعاً للمكان...هل كان قراره صائباً في الاختيار أم أن هناك أموراً لها تأثير حاسم في مسار حياة الإنسان لا يملك إزاءها شيئاً..؟ صديقه نزيه سجل في كلية الهندسة، أما نسيم فقد التحق في كلية الطب.. لماذا تشبث برأيه الذي لا يعول عليه كثيراً في حياته العملية ..‏

    لقد كان له حرية الاختيار ولكنه لم يسمح حتى بمناقشة الموضوع أو إعطاء أية فرصة لتغيير رأيه... وتبخرت آمال وطموحات عمه أمام ذاك العناد وتلك القناعات التي أصبح أسيرها.‏

    أكثر ما أثار استغرابه وجود ثلاثة راهبات معه في قاعة المحاضرات، يأتين معاً في توقيت دقيق ويذهبن معاً..حتى مقعدهن الدراسي أصبح معروفاً في الصف الأمامي والكل يحترم عدم الجلوس عليه طالبات يشاركن بفعالية ملفتة عندما يفتح الأستاذ المحاضر باب النقاش حول موضوع ما .‏

    لم يكن ثمة تزمت في مداخلاتهن، وقبولهن للرأي الآخر برحابة صدر عكس نفسه بالمودة التي أبداها جميع طلاب الصف نحوهن، أما ما لم يفهمه هو اختيارهن لدراسة هذه المادة الصعبة والتي يجدها متعبة حسب رأيه...‏

    جالت في داخله مشاعر هزته عميقاً . إنه الآن وقد وضع كل الاحتمالات يعود بالذاكرة إلى الماضي، ذاك الماضي أقنع الآخرين أنه يملك إصراراً على دعم رأيه ويتشبث به، ويجعله يرفض أن يكون مهزوماً.‏

    وبينما كان يحسب الحسابات ويضع لكل خطوة احتمالاً تذكر ذاك الماضي.‏

    لا يستطيع أن يفكر، أن اهتمامه كان كثيراً ما يتوجه نحو تلك الفتاة المثيرة لمى والتي كانت تأتي كل يوم بلباس مختلف، يكشف من مفاتنها أكثر مما يستر ولا تأبه بأحد، وإذا ما ألقت التحية يوماً على زميل لها، نسج حولها قصة خيالية لا يمل تكرارها..‏

    ماذا يهمه من مقولة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) الذي أمضى الدكتور اليافي ساعة كاملة وهو يوضح تلك المقولة . في الحقيقة لم يترسب في ذهنه شيء ذو أهمية، وهو شارد بعيداً يفكر باصطحاب لمى إلى الكفتيريا، ويفكر بالطريقة التي يبدأ بها الحديث ...لماذا لا يمتلك الجرأة على الاقتراب منها. إن طلب دفتر محاضراتها ستعرف حتماً أنها حجة للحديث معها..قد تتجاهله، أو تشيح بوجهها عنه، وفي هذا لطمة قوية لا يستطع تحملها.. لا، لا إن شاباً وسيماً مثله لا تخذله فتاة لمجرد إعجابه بها ومحاولته التعرف عليها.. ولكن ماذا سيقول أصدقاؤه إذا حدث العكس..وكسفته أو تجاهلته..حتماً لا يستطيع أن يتحمل ذلك.‏

    أبداً مشاعره لم تكن بالود نفسه وهو يستعيد أيام دراسته الابتدائية في مدرسة الراهبات الناصرية، وكيف رفض أن يتزحزح من مقعده في الصف الأول، عندما طلبت منه معلمته ذلك، لتجلس مكانه زميلاً له بلا سبب باستثناء أن والده يعمل في مركز حكومي مرموق. وكيف لاحظ رغم صغر سنه آنذاك أن أبناء وبنات الأغنياء يحتلون الصفوف الأولى، وأبناء الفقراء في الصفوف الخلفية، ورغم عناده الذي اندهشت له معلمة الصف فإن الألم الذي اعتصر أذنه من ضغط أصابعها دفعه إلى النهوض والامتثال لأوامرها في الجلوس في مقعد آخر. صحيح أن والده لم يكن من أثرياء المدينة أو ممن يغدقون في تبرعاتهم الخيرية، و لكنه كان رجلاً مهنياً محترماً في أوساط العائلة، وبين معارفه وأصدقائه، إلا أن عمه في المقابل كان من كبار التجار المعروفين يمتلك عقارات وأراض شاسعة يجهل مكان بعضها..وكان يحرص على كسب ود رجال الدين والمساهمة في مشاريعهم الخيرية، إلا أن ذلك كله لم يشفع له أمام معلمته التي لم يعرف حتى اللحظة سبباً لسلوكها ذاك وتمييزها الذي لم يمح من ذاكرته رغم مرور السنوات الطويلة.. تلك الصورة لازمته وهو يحسب ما عسى أن يكون تصرف لمى معه، وهو المعتد بنفسه بين أقرانه..هذا أسلوب سخيف لا يقبل به .‏

    ونهض متأبطاً كتبه وتوجه إلى كافتيريا الجامعة حيث تنتظره شلة من رفاقه الذين بادروه الاحتجاج على تأخره عن موعده معهم..كان النقاش صاخباً حول مؤتمر اتحاد الطلبة وتقييم الأسماء التي طرحت نفسها، لانتخابات الهيئة الإدارية لفرع الاتحاد، وممثلي المؤتمر العام، الذي تقرر عقده في الصيف القادم. القوى السياسية النشطة في القطاع الطلابي تسعى لكسب العناصر المستقلة، وعلى الرغم من أن البعثيين يمثلون المفتاح الرئيسي لإنجاح أية قائمة طلابيه، إلا أن التعليمات الحزبية المشددة في التحرك والنشاط، ومتابعة التطورات والمتغيرات, واتجاهات التيارات الأخرى مهمة ضرورية لدرء أية مفاجأة أو خطأ في الحسابات قد تقود إلى هزيمة لا يمكن قبولها وسيحاسب المسؤولون عنها.‏

    كان يعرف في قرارة نفسه أنه وجه طلابي محبوب، خاض التجربة خلال السنوات الأربع الماضية، ولم يفشل في أي منها بل على العكس من ذلك كان يحصل على أعلى الأصوات حتى تكاد أن تكون تامة. حتى خصومه السياسيون لم يسمح لخلافاتهم معه أن تؤثر على علاقاته الشخصية بهم فخلال رئاسته لاتحاد الطلبة في السنتين الأخيرتين لم يبخل بمساعدة أي زميل له، وجعل من مقر الاتحاد منتدى يمارس فيه الطلبة مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية والرياضية.‏

    ولم يكن يسمح لمحاولات بعض رفاقه في الحزب أن يستأثروا بالفعاليات الطلابية على حساب الآخرين.‏

    تلك المداخلة بينه وبين نفسه عن تجاربه و نجاحاته وصدق تفاعله مع زملائه دون استثناء أنسته أنه أمام رفاقه الذين انتظروه للتنسيق والإعداد والاستعداد. لامه الرفاق لتأخره متسائلين :‏

    _ ألا ترى أن موعد مؤتمر الفرع بعد ثلاثة أيام ولم نُسَمِ قائمتنا بعد..‏

    _ نعم أعرف، حقاً لقد تأخرنا.‏

    _ من هي سعيدة الحظ التي أنستك الموعد ؟‏

    _ يا جماعة ما هذا الهزار، لم أتأخر إلا قليلا ..‏

    _ أنت بالذات يجب أن تكون حاضراً قبلنا..‏

    _ لابأس، أرجو المعذرة...‏

    _ إنها معركة ويجب أن نفوز بها ..‏

    _ لا ليست كذلك ..إنها تنافس ديمقراطي..والجدير بتمثيل القاعدة الطلابية هو الرابح عن حق..‏

    _ أنت طوباوي في تفكيرك، إنهم ينشرون الإشاعات والأقاويل الكاذبة، ولا يحترمون مناقبية العمل الطلابي..‏

    _ هذا دليل ضعفهم ولن تنطلي محاولاتهم إلا على الأغبياء، زملاؤنا محصنون بالوعي ولا سبيل إلى خداعهم.‏

    وتساءلوا أين قوته لدرجة أن ثقته بانتصاره في الانتخابات كبيرة، آه....إنه يعرف كيف يداوي جراح الآخرين، لم يكن يوماً ضبابياً في مواقفه، إنه جريء في طرحه يقول ما يرضي الجميع ويتصرف حسب رغبة الجميع، وكثيراً ما كان يصطدم مع قيادته التي تنقل له احتجاج بعض المتزمتين وشكاواهم، وكان يجد دائماً الردود المقنعة التي لا يملك أحد إلا قبولها، بل والثناء عليها..هو يعرف تماماً أنه استطاع أن يؤثر كثيراً في مسيرة الحركة الطلابية الأردنية في جامعة دمشق، وأن ينقلها من حالة التقوقع والركود إلى حالة تضج بالحركة والنشاط والحياة، وحتى القوى السياسية التي كانت تعزل نفسها عن المشاركة والتفاعل لم تجد مناصاً من تغيير موقفها والانخراط في العمل الطلابي الذي شهد نشاطاً واسعاً ونوعاً من التنافس الشريف على استقطاب القاعدة الأوسع في الساحة الطلابية.‏

    ولكن ثمة شعور بالقلق ينتابه بين حين وآخر فالمؤتمر العام يختلف عما سبقه من المؤتمرات إنه يخشى التوقعات غير المحسوبة . رغم شعبيته الواسعة وقدرته على الإقناع و مزايا شخصيته المحببة فالمتغيرات السياسية على صعيد الحزب أدت بالضرورة إلى انقسام التنظيم الطلابي.‏

    وكثير من رفاق الأمس، أصبحوا خصوماً اليوم، وهم ينشطون في الاتجاه المعاكس لإثبات حضورهم، والاستئثار بأكبر عدد من المقاعد لقيادة الحركة الطلابية.‏

    إنهم الأكثرية عدداً ولكنه يعرف نقاط ضعفهم إنها التزمت والانغلاق على أنفسهم، وحجب أية محاولة للانفتاح على القوى الأخرى، وإدعاء ملكهم للحق والصواب دون غيرهم، تلك لن تكون في صالحهم حتماً،وهو قادر بالتأكيد على تشكيل محور تلتف حوله كل التيارات الأخرى وسيثبت لهم تهافت طروحاتهم وعجز ممارساتهم التي لا تلقى صداً إيجابياً.. كان واثقاً من نفسه ولكن لم يسمح أبداً للغرور بالسيطرة عليه..‏

    عندما انتسب إلى صفوف البعث كان فتى يافعاً في المرحلة الثانوية، لم يتجاوز عمره السادسة عشرة. لم يكن وقتها يدرك أكثر من شعارات عامة، حماسته المفرطه في تنفيذ المهمات الحزبية، وتوزيع النشرات التي يصدرها الحزب كادت أن تقوده إلى الاعتقال، لولا بعض الحظ ،ومهارته في التخفي عن أعين رجال المباحث التي لا تتسامح أبداً مع أية شبهة أو شك .‏

    إن انتقاله من بيئة إلى أخرى، ومن العمل السري إلى العلني، والظروف الجديدة التي وفرتها الحياة الجامعية في دمشق. طورت وعيه كثيراً فكرياً، وثقافياً، وسياسياً، ساعده في ذلك أيضاً تخصصه في دراسة الفلسفة والاجتماع وملكة خطابية رائعة يترجمها صوته الجهوري إلى فعل مؤثر في نفوس المستمعين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 1:24 pm